top of page
Search

الأم والموت #قصة_قصيرة #عبدالله _خليفة



الأم والموت


ذلك الحي الكبير، مترامي العشش والأكواخ، هو من بطن هذه المرأة، هذه السوداء المعروقة، التي تمتد يداها لزرع الحناء في الأكف، والحب في القلوب والبطون، هذه الشامخة، التي تحاذي رؤوس الشجر، وميادين الحمام والغمام، البائعة المتجولة، الفراشةُ الموزِّعة للنسيج الملَّون والبيض، مغنية الأعراس الطبالة الصادحة بهز الصمت والأحزان.

طبلُها يصدحُ في الأعراس بين الجموع. صوتُ جلد الحيوان يَظهر حياً. يتداخلُ جسدها وكتل الرجال والنسوة. طيرانٌ جماعيٌ إلى النشوة، وحمالو الأكياس والحطب والمياه يغدون مسغولين بالعرق والصخب، والجلود وقرونُ الماعزِ والبخور والخمورُ الرخيصةُ تصنع الأطفال والفكاهةَ والنسيان.

يُقالُ بأن «العدامة» كانت سبخاً ودائرة بعوضٍ وثعابينَ. كان البحرُ يتسرب إليها، عندما يكتملُ القمرُ يُصاب بالتسمم، فتطفو أسماكه وسرطاناتُه، ولا تقربها حتى النوارس.

ويُقالُ بأن دائرةَ المياهِ المسمومةِ الملعونة كانت قبراً يُغرق فيه اللصوص والقتلة، فتبقى أصواتهم سنَوات وهي تغمغم.

وذات يومِ، رُئِيَ عملاقٌ في الماء. شراعٌ أبيضٌ وحمامةٌ. كائنٌ أسمرٌ يمتص الخراف الميتة والأفاعي والأرواح، ويزرعُ تربةً وعلامة.

وتلكَ النطفةٌ من الحياة والموتِ غدت عشاً وعشباً وخياماً من الأعضاء والأسماء.

لم يعرفْ أحدٌ العملاقَ، لكن المرأةَ استوطنتْ بقعته وذكراه.

وحينها لم تكن «العدامة» سوى بضعة رجال شاحبين، امتصتهم الأسواق والعرباتُ وسجائر الجمل.

وفي ليالٍ غريبة، وبين تلك العششِ المعزولةِ في الماء والسم كانت رقصة وحشية تتكون: نزولٌ مرعبٌ للمرأة وسط دغل الموت والأشباح والأرواح، واهتزازاتٌ هائلة تقذفُ الماء والعفاريت والوحشة، وتضعُ طيناً في كل شدق مفتوح للفتك، وتحولُ الجلودَ إلى قربٍ، تطلق موسيقى وتجذب الرجال الخائفين إلى حومة الرقص.

وحينها كانت الأحياء البعيدة، تتطلعُ إلى تلك الأضواء المريبة والأصوات المخيفة، وتتعوذُ من الشيطان الرجيم، وتقول: إنها حفلةٌ أخرى للجن.

لم ينْم أحدٌ معها من الرجال. كانوا يرتعبون من ملامستها.

ذلك الجسدُ الأبنوسي الشاهق ــــ الوجه ذو الأنف الأفطس والبشرة السائحة زيتاً وضوءاً، والعينان الضيقتان المخيفتان ــــ لم يكن أحدٌ قادر على امتلاكه.

وبعد تلك الحفلات الجنيةِ كانت المرأة تحبل.

ولم تكن هناك دهشة في «العدامة»، فحين تلامس في الليل أصابع القتلى التي لاتزال تمسك بسلاسل ورسائل، وتتراءى الثعابين مشغولة في المياه الخضراء، لا تعود تميز بين الخرافة والخبز.

كل طفلٍ منها كان ينمو ويغدو شجرة أو قارباً أو ملاحاً، كل حفلةٍ كانت تصنعُ البشر والشجر والمناديل والفوانيس، وتحيل الحيات إلى ميداليات وضحكات، وكان الرجال المتكاثرون يئزون بالمتع، ويتعتعهم السكر والفخر ويغدون كلهم آباءً، وتمتلئ سواعدهم بشحم الخراف.

وحين لم تعدْ العششُ كافيةً، والمرأةُ البطنُ المفتوحةُ مكروهةٌ، وصار الصغارُ يأكلون الصحون وسفرات الطعام والأغصان وذكريات الأسلاف .

حينها استدعى الرجالُ السحرةَ. أعطوهم عرائش النسيمِ ونوافذ البحر. وتركوهم يسحبون الضوء من المرأة، ويربطون خصرها الجامح بأوتاد الليل، ويقطعون فسائلها الطويلة الممتدة إلى التراب.

والمرأُة التي ظهرتْ محنيةً، بدا أن قامتها صارت أكثر طولاً، وفرحها الصاخُب صارِ أظافر تبحثُ عن البذور، وتضع الحطب على كتفيها لتملأ القوارب السيف، ثم تخفي دمها، وصوتها..

ثم جاء رجلٌ من الشرق، قصير وصامت، طلع من سفينة ممتلئة بالماعز، وكانت مهنته ذبح الغنم، وكان يبحث عن بيوت الكبار والأعراس، لكي يضع الحيوانات الأليفة تحت فخذيه الصلدين، ثم ينحرُهَا وهو يغمغم بدعائه.

لم يتحدث مع أحد، لم يعاشر المقهى والطبول..

أُدخل على المرأة فربطها بالسرير، واهتزت الأرضُ بضجة عنيفة، ورُئيَ يقذف إلى السقف، وجريد الكوخ يتكسر، ودمه يسيل، لكنه أنجز المهمة، وهَمَدَ كل شيء.

اختفت المياهُ وجداول الضحك، والليلُ الصاخبُ وانفجاراتُ الرقص. وانتفخ بطنُ المرأة بشكل ورمٍ ضخم، ولم يداها مليئتان بالحناء، ولا صوتها شجياً، وكأن جذعها الهائل غدا نخلةً قزمة تضعُ رطبهاَ على الأرض.

لم يحدثْ شيءُ مرعب عندما خر ابنُها إلى «العدامة». لكن السحرة صاروا أصحاب دكاكين ومآذن وغدت العشش والأكواخ مثل تلال صغيرة قبيحة من الرمال، حولها كلابٌ تنبح وقمامات تفح بالذباب.

حينذاك أخذ زوجها خرقة ومضى إلى الغرب حيث ذاب في الأفق، تاركاً ذلك الابن الغريب، سكينه الباقية.

منذ خطواته الأولي في «العدامة» أدرك الناسُ أن القيامة قريبة. لم يتركْ بيضةً إلا سرقها من تحت الدجاج، ولا ضرعاً إلا سحبه في جوفه، ولا خاتماً إلا قطع أصبع صاحبه، ولا خزانة إلا أفرغها في جيوبه، وحتى المومسات اللواتي يعطفن عليه، ويدخلنه في ظلمتهن، كان يُلقي مسحوق الفلفل الأحمر بين أفخاذهن، ويبصق في القدور، ويلهب ظهور الصغار بلسعات سوطه، ولا يدع مصيدة ممتلئة بالسمك، ولا قارباً آمناً في البحر، ولا جنيةً نائمةً في النهار.

كانت المرأة تبحث عنه في الظهائر المشتعلة، وتخرجه من الزنازن وبطون الأسماك النافقة، ومن المزابل، وتضعه على ظهرها حين يتعتعه السكر وتفقد قدماه ملامح الدروب.

وحين شب الحريق في «العدامة» طارت أجساد النسوة محترقة في الفضاء بلحمهن وعباءاتهن، جرته من الفراش، بين الدخان والزيت وقذائف الزجاجات والليمون الأسود، وألقته على التراب البارد، في حين كانت ساقاها وبطنها تسقط لحماً.

اختفت «العدامة» وحلت كومة رماد وسواد، ذاب السحرة في المدينة، وفقد الراقصون سيقانهم، وطلعت بيوتٌ قميئة بلا رؤوس.

المرأة التي راحت تزحف على الأرض، تحصد العشب الوحشي في البراري والمقابر، وتوزع الحليب في الفجر، سكنت تحت سلم أحد البيوت العتيقة، باحثة عن ابنها المتواري في شقق القمار وتوزيع الحشيش.

لم يتعب في إيجاد مهنته. ترأس ثلة من الوجوه المرضوضة باللكمات والثآليل، فتكاثرت الأبنية والدكاكين والمساجين حوله.

من يستطيع أن يعرف تلك المرأة الزاحفة، الكتلة المهروسة من الأعضاء والخرق، التي تبلع لقيماتها في العتمة، ويطاردها الصغار بالقشور والحصى، وتنقل ذكرياتها وأحلامها من خرابة إلى حديقة، تندب موتى الإبر والظلام؟

ومن يستطيع أن يعرف هذا الرجل ذا البدلة الأنيقة الجاثم في المقعد الخلفي، يستقبل مكالمات من أنحاء الدنيا، ويقذف دخاناً ثميناً في عربته المتعددة؟

هناك شيء واحد يقلقه. هناك امرأة وحيدة تربطه بالمستنقع والأشباح. وإذا جاء صوتها متغلغلاً في ذرات الهواء، مخلخلاً الأجهزة والبث الفضائي، تفلت خلاياه من جسده، وتفور مياهه الحامضة، وتهبط أسهمه ورياحه.

وُضعت مرة في كيس ودُفنت في الصحراء فجاءت كلاب وأخرجتها.

أُلغيت ذاكرتها في مصحة عقلية، فتوزعت شظاياها على المرضى فهبوا في المدينة.

حينئذٍ اُستدعي رجلٌ من الغرب. كان قصيراً صامتاً. استخدم آلة «ضخمة» لنشر جسدها، ووزع قطعه على الماء والتراب والهواء.



17 views0 comments
Post: Blog2_Post
  • Instagram
  • Facebook
  • Pinterest

©2021 by عبـــــــدالله خلــــــــيفة كاتب وروائي. Proudly created with Wix.com

bottom of page